سورة فاطر - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


{الحمد للَّهِ فَاطِرِ السموات والارض} مبدِعهما من غير مثالٍ يحتذيِه ولا قانونٍ ينتحيهِ. من الفَطرِ وهو الشَّقُّ وقيل الشَّقُّ طولاً كأنَّه شقَّ العدمَ بإخراجِهما منه وإضافته محضة لأنَّه بمعنى الماضي فهو نعتٌ للاسمِ الجليلِ ومن جعلها غيرَ محضةٍ جعله بدلاً منه وهو قليلٌ في المشتقِّ. {جَاعِلِ الملائكة} الكلامُ في إضافتِه وكونِه نعتاً أو بدلاً كما قبلَه وقوله تعالى: {رُسُلاً} منصوبٌ به على الوجهِ الثَّانِي من الإضافة بالاتِّفاقِ وأمَّا على الوجهِ الأوَّلِ فكذلك عند الكِسائِّي وأمَّا عند البصريينَ فبمضمرٍ يدلُّ هو عليه لأنَّ اسمَ الفاعلِ إذا كان بمعنى الماضي لا يعملُ عندهم إلا معرَّفاً باللام وقال أبو سعيدٍ السِّيرافيُّ: اسم الفاعلِ المتعدِّي إلى اثنينِ يعملُ في الثَّانِي لإنَّ بإضافتَه إلى الأوَّلِ تعذرتْ إضافتُه إلى الثَّانِي فتعيِّن نصبُه له وعلل بعضُهم ذلك بأنَّه بالإضافة أشبه المعرَّفِ باللامِ فعمِل عملَه. وقرئ: {جاعلُ} بالرَّفعِ على المدح وقرئ: {الذى فَطَرَ السموات والارض وَجَعَلَ الملائكة} أي جاعلهم وسائطَ بينه تعالى وبين أنبيائه والصَّالحينَ من عبادِه يبلِّغون إليهم رسالاتِه بالوحيِ والإلهامِ والرُّؤيا الصَّادقةِ أو بينه تعالى وبين خلقِه أيضاً حيثُ يوصِّلون إليهم آثارَ قدرتِه وصنعِه هذا على تقديرِ كونِ الجعلِ تصييريَّاً أمَّا على تقديرِ كونِه إبداعيَّاً فرُسلاً نُصب على الحاليَّةِ وقرئ: {رُسْلاً} بسكونِ السِّينِ {أُوْلِى أَجْنِحَةٍ} صفةً لرُسلاً وأولو اسمُ جمعٍ لذُو كما أنَّ أُولاء اسمُ جمعٍ لذا. ونظيرُهما في الأسماءِ المتمكِّنة المخاضُ والخلفةُ وقوله تعالى: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} صفاتٌ لأجنحة أي ذَوي أجنجةٍ متعدِّدةٍ مُتفاوتةٍ في العدد حسب تفاوتِ ما لَهُم من المراتب ينزلون بها ويعرجُون أو يسرعون بها والمعنى أنَّ من الملائكة خَلْقاً لكلِّ واحد منهم جناحانِ وخَلْقاً لكلِّ واحد منهم ثلاثة وخَلْقاً آخر لكلِّ منهم أربعة أجنحة. ويُروى أنَّ صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة بجناحين منها يُلقون أجسادَهم وبآخرينِ منها يطيرون فيما أُمروا به من جهتِه تعالى وجناحانِ منها مرخيَّانِ على وجوههم حياءً من الله عزَّ وجلَّ وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنَّه رأى جبريلَ عليه السَّلامُ ليلةَ المعراجِ وله ستمائةُ جناح» ورُوي «أنَّه سألَه عليهما السَّلامُ أنْ يترآى له في صورتِه فقال إنَّك لن تطيقَ ذلك قال إنِّي أحبُّ أنْ تفعلَ فخرج عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ليلةٍ مُقمرةٍ فأتاهُ جبريلُ عليهما السَّلامُ في صورتِه فغُشي عليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ثمَّ أفاقَ وجيريلُ مسندُهُ وإحدى يديِه على صدرِه والأخرى بين كتفيِه فقال: سبحانَ الله ما كنتُ أرى أنَّ شيئاً من الخلقِ هكذا فقال جبريل عليه السَّلامُ فكيف لو رأيتَ إسرافيلَ له اثنا عشرَ جناحاً جناحٌ منها بالمشرقِ وجناحٌ منها بالمغربِ وإنَّ العرشَ على كاهلِه وإنَّه ليتضاءلُ الأحايينَ لعظمةِ الله عزَّ وجلَّ حتَّى يعودَ مثلَ الوَصَعِ وهو العصفورُ الصَّغيرُ».
{يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء} استئنافٌ مقررٌ لما قبله من تفاوتِ أحوالِ الملائكةِ في عددِ الأجنحةِ ومؤذنٌ بأنَّ ذلك من أحكام مشيئتِه تعالى لا لأمرٍ راجعٍ إلى ذَواتهم ببيان حكم كلِّي ناطق بأنَّه تعالى يزيدُ في أيِّ خلقٍ كان كلِّ ما يشاءُ أنْ يزيدَه بموجبِ مشيئتِه ومُقتضى حكمتِه من الأمورِ التي لا يحيطُ بها الوصفُ وما رُوي عن النبي عليه الصَّلاةُ والسلامُ من تخصيص بعض المعاني بالذِّكرِ من الوجهِ الحسنِ والصَّوتِ الحسنِ والشَّعرِ الحسنِ فبيانٌ لبعضِ الموادِّ المعهودةِ بطريقِ التَّمثيلِ لا بطريقِ الحصرِ فيها. وقولُه تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ} تعليلٌ بطريقِ التَّحقيق للحُكمِ المذكورِ فإنَّ شمولَ قُدرته تعالى لجميعِ الأشياءِ ممَّا يوجبُ قدرتَه تعالى على أنَّ يزيدَ كلَّ ما يشاؤه إيجاباً بيِّناً.


{مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} عبَّر عن إرسالِها بالفتحَ إيذاناً بأنَّها أنفسُ الخزائنِ التي يتنافسُ فيها المتنافسون وأعزُّها منالاً. وتنكيرُها للإشاعةِ والإبهام أيْ أيَّ شيءٍ يفتحُ اللَّهُ من خزائنِ رحمتِه أيَّة رحمةٍ كانتْ من نعمةٍ وصحَّةٍ وأمنٍ وعلمٍ وحكمةٍ إلى غيرِ ذلكَ ممَّا لا يُحاط به {فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} أي لا أحدَ يقدرُ على إمساكِها {وَمَا يُمْسِكْ} أيْ أيَّ شيءَ يُمسك {فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ} أي لا أحدَ يقدرُ على إرسالِه واختلافُ الضَّميرينِ لما أنَّ مرجعَ الأوَّلِ مفسَّرٌ بالرَّحمةِ ومرجعَ الثَّانِي مطلقٌ يتناولُها وغيرَها كائناً ما كان وفيه إشعارٌ بأنَّ رحمتَه سبقتْ غَضبه {مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ إمساكِه {وَهُوَ العزيز} الغالبُ على كلِّ ما يشاءُ من الأمورِ التي من جُملتها الفتحُ والإمساك {الحكيم} الذي يفعلُ كلَّ ما يفعل حسبما تقتضيِه الحكمةُ والمصلحة والجملُة تذييلٌ مقررٌ لما قبلها ومعربٌ عن كونِ كلَ من الفتحِ والإمساكِ بموجبِ الحكمةِ التي عليها يدورُ أمرُ التَّكوينِ وبعد ما بيَّن سبحانَه أنَّه الموجدُ للملك والملكوتِ والمتصرِّفُ فيهما بالقبضِ والبسطِ من غيرِ أنْ يكونَ لأحدٍ في ذلك دخلٌ ما بوجهٍ من الوجوهِ أمرَ النَّاس قاطبةً أو أهلَ مكَّةَ خاصَّةً بشكرِ نِعَمِه فقال: {يأَيُّهَا الناس اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي إنعامَه عليكم إنْ جُعلت النِّعمةُ مصدراً أو كائنةً عليكم إنْ جُعلت اسماً. أي راعُوها واحفظُوها بمعرفةِ حقِّها والاعترافِ بها، وتخصيصِ العبادةِ والطَّاعةِ بموليها ولمَّا كانتْ نعمُ الله تعالى مع تشعُّبِ فنونِها منحصرةً في نعمةِ الإيجادِ ونعمةِ الإبقاءِ نَفَى أنْ يكونَ في الوجودِ شيءٌ غيرُه تعالى يصدرُ عنه إحدى النِّعمتينِ بطريقِ الاستفهامِ الإنكاريِّ المُنادِي باستحالةِ أنْ يُجاب عنه بنعَم فقال: {هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله} أي هَلْ خالقٌ مغايرٌ له تعالى موجودٌ على أنَّ خالقٍ مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ زيدتْ عليه كلمة مِن لتأكيدِ العُمومِ. وغيرِ الله نعتٌ له باعتبارِ محلِّه كما أنَّه نعتٌ له في قراءةِ الجرِّ باعتبار لفظِه وقرئ بالنَّصبِ على الاستثناءِ. وقوله تعالى: {يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض} أي بالمطرِ والنَّباتِ كلامٌ مبتدأٌ على التَّقاديرِ لا محلَّ له من الإعرابِ داخلٌ في حيِّز النَّفي والإنكار ولا مساغَ لما قيل: من أنَّه صفةٌ أخرى لخالق مرفوعةُ المحلِّ أو مجرورتُه لأنَّ معناه نفي وجودِ خالقٍ موصوفٍ بوصفَيْ المغايرةِ والرَّازقيَّةِ معاً من غير تعرُّضٍ لنفيِ وجودِ ما اتَّصف بالمغايرةِ فَقَطْ، ولا لما قيل: من أنَّه الخبرُ للمبتدأِ ولا لما قيل من أنَّه مفسِّر لمضمرٍ ارتفع به قولُه تعالى من خالقٍ على الفاعلية عليّه أي هل يرزقكم من خالق الخ. لما أنَّ معناهما نفي رازقيَّة خالقٍ مغايرٍ له تعالى من غيرِ تعرُّضٍ لنفيِ وجودِه رأساً مع أنَّه المرادُ حتماً ألا يرى إلى قولِه تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فإنَّه استئنافٌ مسوقٌ لتقرير النَّفيِ المستفادِ منه قصداً وجارٍ مجرى الجوابِ عمَّا يوهمه الاستفهامُ صورةً فحيث كان هذا ناطقاً بنفيِ الوجودِ تعيَّن أنْ يكونَ ذلك أيضاً كذلك قطعاً. والفاءُ في قوله تعالى: {فأنى تُؤْفَكُونَ} لترتيبِ إنكارِ عدولهم عن التَّوحيدِ إلى الإشراكِ على ما قبلها كأنَّه قيل: وإذا تبيَّن تفرُّده تعالى بالأُلوهيةِ والخالقيَّةِ والرازفيَّةِ فمنْ أيِّ وجهٍ تُصرفون عن التَّوحيدِ إلى الشِّركِ.


{وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ له إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بين خطابي النَّاسِ مسارعةً إلى تسليتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعمومِ البليَّةِ أولاً والإشارةِ إلى الوعدِ والوعيدِ ثانياً أيْ وإن استمرُّوا على أنْ يكذِّبوك فيما بلَّغتَ إليهم من الحقِّ المُبين بعد ما أقمتَ عليهم الحجَّةَ وألقمتَهم الحجرَ فتأسَّ بأولئك الرُّسلِ في المُصابرةَ على ما أصابَهم من قبل قومِهم فوضعَ موضعهَ ما ذُكر اكتفاءً بذكرِ السَّببِ عن ذكرِ المسبَّبِ. وتنكيرُ الرُّسل للتَّفخيمِ الموجبِ لمزيدِ التَّسليةِ والتَّوجهِ إلى المُصابرةِ أي رُسلٌ أولو شأنٍ خطيرٍ وذَوُو عددٍ كثيرٍ {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} لا إلى غيرِه فيُجازِي كَّلاً منك ومنُهم بما أنتُم عليهِ من الأحوالِ التي من جملتها صبرُك وتكذيبُهم، وفي الاقتصارِ على ذكرِ اختصاصِ المرجعِ بالله تعالى مع إبهامِ الجزاءِ ثواباً وعقاباً من المبالغةِ في الوعدِ والوعيدِ ما لا يَخْفى. وقرئ: {تَرْجعُ} بفتحِ التَّاءِ من الرُّجوعِ والأوَّلُ أدخلُ في التَّهويلِ.
{ياأيها الناس} رجوعٌ إلى خطابِهم وتكريرُ النِّداءِ لتأكيدِ العظةِ والتَّذكير {إِنَّ وَعْدَ الله} المشارَ إليه برجعِ الأمورِ إليه تعالى من البعث والجزاء {حَقّ} ثابتٌ لا محالةَ من غيرِ خُلفٍ {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} بأنْ يُذهلكم التَّمتع بمتاعِها ويُلهيكم التَّلهي بزخارِفها عن تداركِ ما يهمكم يومَ حلولِ الميعادِ. والمرادُ نهيُهم عن الاغترار بها وإنْ توجَّه النَّهيُ صورةً إليها كما في قوله تعالى: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى} {وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله} وعفوِه وكرمه تعالى {الغرور} أي المبالغُ في الغُرور وهو الشَّيطانُ بأنْ يمنيكم المغفرةَ مع الإصرارِ على المعاصِي قائلاً اعملوا ما شئتُم إنَّ الله غفورٌ يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً، فإنَّ ذلكَ وإنْ أمكنَ لكنْ تعاطي الذّنوبِ بهذا التَّوقعِ من قبيلِ تناولِ السُّمِّ تعويلاً على دفعِ الطَّبيعةِ. وتكريرُ فعلِ النَّهي للمبالغةِ فيه ولاختلافِ الغرورينِ في الكيفيَّةِ. وقرئ: {الغُرور} بالضَّمِّ على أنَّه مصدرٌ أو جمعُ غَارٍ كقُعودٍ جمعُ قاعدٍ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6